ربما يكون ضرورياً لقاء التشكيلي خلف عمله الفني ليس أمامه، هكذا فعلت ساعياً ذات مساء، للقاء الفنان التشكيلي والخطاط محمد العجلان، في مكتب الصديق الفاضل الأستاذ
عبد المحسن الشويمان في صالة الشرقية للفنون، كنت عازماً على طرح بعض الأسئلة، لألملمُ من إجاباته ما يفيدني في فهم أعمق لأعماله، سألته: لماذا أضفت في معرضك عن المعلقات عملاً أسميته "معلقة الخط العربي"؟
نظر إلي مبتسماً، ثم حرّك كتفيه وكفيه بمعنى أنه لا يدري، وظل صامتاً، ما جعلني أصمت أنا أيضاً. بعد وقت ليس بقصير قال لي: حُلمي الذي لا أستطيع التخلّص منه، تنفيذ عمل فني جامعاً لكل ما أحس به في الخط العربي، وفي التشكيل، ينظر فيه المتلقي، فيجد الخط العربي بأشكاله وحركاته وأصواته ومعانيه، وكل ما يبحث عنه في الفن التشكيلي.. لكن كلمّا نفّذت عملاً تنمو فيّ أعمال أخرى. ضحكنا إذ بدى القول كحلم طفولي معجزة، لكنني لم أستطع التخلّص منه ولو للحظة
ما الذي يجعل الفنان يحلم برقعة قماش تحمل كل هذه الشحنات، يفرّغ فوقها ما بداخله من مجرات؟ بل كيف للخطوط والألوان حمل كلّ هذا؟ بدت لي الفكرة وقد سبق أن ألحّت على كثير من المبدعين في التاريخ الإنسان: هورهي لويس بورهيس وجد "كتاب الرمل" الذي كلمّا قرأت صفحة فيه نمى مكانها صفحات، مليء بالصور والنصوص بلغة غير مقروءة، كتاب مثل كل الكتب شكلاً، لكن يحمل طاقة مستديمة، تمنحك كلما قرأت صفحة، مزيداً من الصفحات، ثم أخرى، ثم أخرى، إلى مالا نهاية
لم يجد بورهيس مكاناً مناسباً "لكتاب الرمل" في مكتبته، إلى جانب كتاب "ألف ليلة وليلة". كان بورهيس يعلم أن ذات الفكرة تنطوي عليها "ليالي العرب"، كلما حكت شهرزاد قصة، تضع فيها بذور قصص أخرى، تجبر شهريار أن يغمد سيفه منتظرا المزيد من القصص، وهكذا ليلة بعد ليلة، استطاعت شهرزاد الحياة ومقاومة الموت بهذه المتوالية اللانهائية. استهوت الفكرة الفنان مارك شاجال، فرسم ستة عشرة لوحة من ليالي العرب وتوقف، إذ أنه لم يلتقط سر الخلود في لا نهائية السرد عند شهرزاد، كما فعل بورهيس في "كتاب الرمل". إذاً هي ذات الفكرة ولدت عند أحد ورثة "ألف ليلة و ليلة" الفنان محمد العجلان، الذي وجد في الشعر العربي القديم ومعلقاته، ذات السر المتقد كنار لاتخبو، فكلّما كتبت العرب بيتاً من الشعر، أتى شاعر يفرض أجمل منه، وكلما استهوت العرب قصيدة علّقوها على أسوار البيت، إلى أن صارت سبعة، وقيل ثمانية، وقيل تسعة، وقيل عشرة، أي أن العرب لم تنتهي عند السبع المعلقات، بل هناك معلقة أخرى محيّرة، كليلة أخرى بعد الألف، كصفحة جديدة في كتاب الرمل بعل كلّ الصفحات، رآها العجلان في ساحة التقاء الخط العربي مع الفن التشكيلي، فأضاف معلقة الخط العربي، لكنه كما قال: كلما نفّذتُ عملاً نمت فيّ أعمال، فهي ليست المعلقة بعد السابعة، ليست الليلة الأخيرة في سرد شهرزاد، ولا الصفحة الأخيرة عند بورهيس، بل هناك أخرى، هذا هو حلم العجلان اللانهائي، الذي يثقل كاهله، ولا يستطيع التخلص منه
لو عدنا لأعماله، نبحث عن هذا السر المتقد وما يحمل من طاقة متجددة دوماً، لوجدناه يترجم ذات الفكرة، وذات الحلم، يفكك التناسب بين الخط والنقطة والزاوية، الذي يكبّل الحرف العربي، ويجبره على الإنصياع لقوانين فن الخط، فيصبح الحرف الواحد شكلاً حرًا مجرّدا من الكلمة، ومجرّدا من قوانين الحساب و النسب في فن الخط، لكن يبقيه كريشة في مهب الريح، تحت سطوة المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب، فيتحوّل إلى ديناميكية حرّة، تدفعه ليتغلغل ويخترق كل الكتل والخطوط التي يستخدمها الفن التشكيلي، منبسطا وممددا على جميع مساحة القماش
الحقيقة أن العمل الفني عند العجلان، أكثر تعقيداً من هذا، فكلّ عمل مركباً تركيباً سحرياً، يعتمد تقنية مزدوجة لتنفيذ هذا السحر، كما أفلت الحرف من قيود فن الخط الرياضية وحساباتها، يفكّ عقال الخطوط والأشكال والكتل مسقطا عنها قوانين الفن التشكيلي، فتصبح هي أيضاً أشكالاً حرة ومطياعة كريشة في مهب الريح، يُخضعها للمد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب، فتبدوا اللوحة أمامنا كخشبة مسرح، يلعب فوقها فريقان مختلفان متمايزان من حيث النوع، لكنهما متداخلان ومتشابكان بإنسجام و هارموني يفرضها "المايسترو"، و المايسترو في هذه الحالة، حركة الحروف الحرة في فن الخط، دون قوانين النسب والحساب
ما يميّز أعمال العجلان هو هذا التداخل والتشابك بين الحروف والكتل الحرّة، تشابك سحري حي متحرّك ومستمر إلى مالا نهاية، يتجاوز الحدود المادية للوحة، فتراه يكمل الحركة والتشابك السحري في لوحة أخرى ثم أخرى، وكل مرة يظن أنه قد يصل الليلة بعد الألف، أو المعلقة بعد السابعة، أو آخر صفحة في كتاب الرّمل ولا يصل ولا يدركه الصباح، فيبدأ من جديد
الناقد التشكيلي د. حكيم عباس
محرم 1431 هـ