وجيهٌ ذاك الرجل في حرم اللوحة، جميلٌ في حضور الجمال، فنانٌ غير اعتيادي، يسكن فلكاً مشحون الانفعالات لا يغمره سواها على رحاب الذاتية العفوية التي لا تعرف الكدّ أو التعب. الفنان التشكيلي والخطاّط العريق محمد بن علي العجلان تعجز الكلمات عن وصف ما يقدّمه، ففرادة العمل الفنّي لا تتضح من واقع معين محددّ الأركان، بل هي نسجٌ من تلاحم الروح والذاتية مع وقع مكوّنات هذا الكون. تلك المكوّنات التفصيلية تشكّل للفنان، ماهية الفنّ.
ففي التفاصيل، يرى التشكيلي محمد العجلان العالم من منظور منفرد ـ أي مغاير للمألوف - تتزاحم فيه الانفعالات وتقوده إلى عالم ساحرٍ مكوّن من مجموعات حرّة تتجانس فيما بينها تارةً، وتنفصل تارة أخرى ضمن كتلة كاملة لا محدودة تتوالف لتشكّل مظهر اللوحة الكامل. هذا العالم، الذي كونّه العجلان على مدار السنوات بأعماله، يُعتبر عبقرية! أجل عبقرية. فاستغلال الفنّ على نحوٍ فريد لا مثيل له ضمن شبكة رمزية، تتعدّى أنصاف الأمور هو ذكاء في حقل الفنّ، وعزمٌ على الإرتقاء في التقديم والثبات، دون سابق إصرار أو تصوّر مسبق من العجلان! وهنا تبدأ الحكاية!
العجلان، لا يتبع أي توجّه فنيّ، يكره القيود التي تحدّ من استنسابية لوحاته، ولا يفكّك الرموز، بل يذهب بموجات “الأنا” إلى ما لا نهاية، وحين يعود، يدهشنا!
هي ليست بزخرفة عشوائية - تلك الكلمات التي تطفو على وجه اللوحة- بل هي أقوال وخواطر ضمن انسياق غير مخطّط له على وسع اللوحة في فلسفة تعبيرية من الحرف والصورة.
وقبل أن يضيع الجوهر الفنيّ في عذب الكلام لا بدّ من الإشارة إلى أن الفنان التشكيلي محمد العجلان اشتد عليه البوح الآني وساق به على نحوٍ واضح أنتج فيه باكورة أعمالٍ تجمع ما بين العصرية يلفّها كلّ من الخطّ العربي وموجات الألوان في معرض تشكيلي في غاليري “السبع الرطب” - الرياض. الذي يشهد حضوراً كثيفاً من الفنانين والزوّار والمهتمين بالفنّ.
: -اليمامة” كان لها حوار خاص مع الفنان التشكيلي والخطّاط والباحث في فلسفة الحرف العربي محمد العجلان، ننقل إليكم تفاصيله فيما يلي
وأنا المعلّقات”
ومعلّقة الحرف
والثقلان
ومعلّقة العرب
وأنا صاحب السبع الرطب
أنا قسورة العرب
“وكلّ ما هو آتٍ آت
كلمات في الفنّ، كلمات للعجلان استوحاها من لوحته "سبع معلّقات"
فنّ السبع الرطب
مما لا شكّ فيه أن العجلان يتموضع في ذاتية فريدة ينسج منها أعماله، لوحاته، خواطره وأدبه ويضع في حسبانه أن العراقة تُكتسب من نبع الشعور والإحساس والذكريات والتجارب والتداخل فيما بينهم، وكلّ عمل فنّي يتداخل مع باطنه المحفوف بالوعي في رحلة عجائبية مفعمة بالحياة والأمل، وعلى وقع ذلك يحدّد، لا بل ينتقي بروز المحور الشكلي العام والخاص لكل معرضٍ له. فاذا توقفنا قليلاً عند تسميته “السبع الرطب” نجد تشابك ما بين عائلته ومعارضه، فعائلته المؤلفة من سبعة (زوجته وأبنائه)، يشاركونه معارضه كافّة. ومن هنا جاءت تسمية “السبع الرطب”، ناهيك عن حبّه الخاص للرقم سبعة. ويقول عن ذلك: معرض “سبع معلّقات” (معرضه سابق) تألف من سبع لوحات ضمتّها سبع نصوص تحكي عن الرياض، ولا يمكنني البوح ما إن كان لدي سرّ خاص لهذا الرقم لكن جلّ ما أدركه أن هذا الرقم يلهمني، ببساطة.
.
باستنسابية فريدة يخيل للرائي للوهلة الأولى أنها عشوائية مفصّلة تلك اللوحات التي عُرضت في معرض العجلان الأخير في غاليري “السبع الرطب” ، حيث تشدّ أحجامها وطولها الأنظار وتسحر العقول. هذه الأعمال المعلّقة لا تشبه المعتاد أو المألوف، فيها من الإبداع الكثير والمجهود المتواصل، فهذا الفنان كما سبق وأشرت، أنه لا يعرف الراحة، ترافقه الريشة يومياً، لا يغيب عنها ولا تبتعد عنه، فهو الوفي لعمله، يصنع منه بيتاً، مرسماً، وحياة. شغوفٌ في الطرح بعيد عن الأنانية، يجول في عالم محفوف بالخفايا ويسرح في معالم الأسرار على أسس خاصة وحالمة، كما في الكلمة والشكل في لوحاته، وضجيج الألوان فيها.
"فورب الكعبة
من في علوّه اعتلى
لاعلونّ بهن عنان السما ولاجعلنهن في الأرض من خير الملا
ولاغلقنّ القاف غصّة للحرف وحين يسمعها وبعد أن يرى
ولا تنظراني.. وانظر اينا احسن عملاً".
"أرطبون الحرف
ولقد مرّ الحرف من السبع الرطب
من أرطبون الحرف
إلى أرطبون العرب".
ذلك الحرف بتربّع على عرش الاقتناء والبوح، في كادر مليء بالحكايات والأحاديث، عن ذلك الرجل الذي عشق الكلمة وجاد فيها إنجازاً وتعبيراً، ذلك الرجل الملقب بارطبون الحرف، وضع الحرف في المرتبة الأولى، على حفّة اللغة والريشة، وفي قلبه مساعٍ نحو غدٍ لامع يعفو عن دوره الغابر ويطفو على شاطئ الحلم الأخير.
حلم الأرطبون ليس مستحيلاً، بل صعباً، على من لم يجد في الكلمة النجاة وفي الصورة الحياة، فكيفما اذا كان أرطبوناً للحرف والريشة، وكفى بالفنّ رعبون صداقة وهدية.
وسبق أن أطلق العجلان معرضاً بعنوان “أرطبون الحرف” عرض فيها لوحات عدّة من ضمنها لوحة “أرطبون الحرف” على شرف وزير الثقافة الأمير بدر بن فرحان آل سعود.
فنٌّ وأكثر...!
كيف كان العالم ليكون دون فنّ؟ ممل؟ أم يميل إلى التكرار في قالب الازدواجية؟ حالة مريبة أن نعيش دون نغم الشعور في طيف الروح، والتعبير عنها لإيصالها إلى الجمهور من خلال تلك الإنتاجات في حقول الفنّ المختلفة. الفنّ ليس فكرة، أو طرح بل تنفيذٌ ومتنفسٌ ورحلة، باعتباره من ذات الوعي واللاوعي. الأمر سيان بالنسبة للعجلان، اذ يرى أن اكتمال الصورة النهائية للوحة ليس فنّاً بل نموذجاً فنيّاً يقود إلى المرحلة الأخيرة، أمّا الفنّ، بحسب العجلان، رحلة ترافقه أثناء الرسم، أي الحالة الشعورية العبثية وكيانه الذي يحضر الصراعات الانفعالية التي يعيشها خلال هذه الرحلة.
في سياق منفصل، يشدّد العجلان على أنه لا يتبع أي توجّه فنّي فذلك يحدّ، بحسب قوله، مدركات الفنان الانفعالية في التعبير والانسياق، فيتبع الخطوط المحددة حتى يحصل على الإنتاج يخلو من الحياة ويدخل في حقل التحصيل.
التحصيل، كما يشير العجلان، هو اتباع نماذج معينة ومحددة، يُشار إليها مسبقاً من قبل توجّه فني يقوم على مبادئ يمكن القول أنها بعيدة عن ذات الشعور، والصراع الانفعالي مع النفس، فيصير بذلك تحصيلاً مكرراً تنقصه التجربة والمرحلة.
ويتابع عن ذلك قائلاً: أكره التكرار والتصوير، لذا أحاول دوماً على إظهار نظرتي الخاصة حول مجرى الأمور وما يحيطني بهذا الكون ضمن منظور خاص ووجداني يبدأ مني ويعود إلي! الفنّ ليس مهارة مكتسبة فقط، بل شعور لحظوي ينبع من نار، هواء، وماء وكل تلك النعم التي تكرّم الله عز وجلّ بها علينا! كل عناصر الكون فنّ، لهيب النار فنّ، الفوضى يمكن تحويلها إلى فنّ. الفنّ موجود فينا يتجانس معنا ويصراع انفعالاتنا ويقودنا إلى الإفشاء.
"ليس هنالك فنّ
وإنما هنالك فنان
خياله واسع غريب
كخيال طفلٍ حدث صغير
وغير مفهوم وغير مرتب
ترتبه الاحداث
فيبعثرها
ويبحث عن غيرها
ثم يلعب بها في ترتيبه الجديد".
الفوضى الجميلة!
أحاطت الألوان البارزة رسومات هذا المعرض بطريقة متجانسة، فبين الأسود والزهري تخابط وتآلف في آنً، ويطوف الذهبي مع خربشات ناصعة البياض، وبين الزحمة والهدوء في اللون الواحد رمزية يعود مجراها إلى ذات الأنا والشعور. ضجيج الألوان التي تناسب على كسور الحروف هي عملية نفسية من نوع آخر، أراد العجلان منها، أن يقود الشراع ويسيطر على تلك اللوحة التي باتت ناضجة ومفعمة بالحضور والأمل
رنا خير الدين
الخميس 04 نوفمبر 2021